إبداعية ومتشابكة على مستوى العالم
سواء تعلق الأمر بالوسادة الهوائية أو بتنسيق "إم بي ثري"، بالكومبيوتر الكوانتي أم بالهيدروجين الأخضر، فإن مؤسسة فراونهوفر معروفة منذ عقود وعلى مستوى العالم بإبداعاتها وأبحاثها في مجال التكنولوجيا المفتاحية
لا يستوضح المرء الحجم الحقيقي لمؤسسة فراونهوفر إلا عندما يمسك بيده خارطة ألمانيا والعالم. ومن حيث المبدأ يمكن القول إن معاهد فراونهوفر منتشرة على كامل مساحة ألمانيا من إيتسيهوة بالقرب من شاطئ بحر الشمال إلى أقصى الجنوب حيث بلدة هولتسكيرشن في بافاريا العليا بالقرب من جبال الألب. فهنالك حالياً 76 معهداً في ألمانيا الاتحادية لوحدها. أضف إلى ذلك معاهد منتشرة في جميع القارات تقريباً: في الولايات المتحدة الأميركية وفي البرازيل كما في جنوب أفريقيا وإسرائيل والصين والهند. ولذلك يمكن القول إن مؤسسة فراونهوفر منتشرة ومتشابكة على مستوى العالم، وهي أكبر مؤسسة للبحوث التطبيقية في أوروبا، والتي تتنوع بين فيزياء البناء ومعالجة البيانات والخلايا الكهرضوئية والطب الحيوي وهندسة الميكاترونيكس (ميكانيك وإلكترون) وأبحاث البوليميرات. وليس هنالك من اختصاص علمي أو تقني إلا وتنشط فيه مؤسسة فراونهوفر.
لقد حازت الكثير من اختراعات معاهد فراونهوفر شهرة عالمية، كالوسادة الهوائية على سبيل المثال أو تنسيق "إم بي ثري" MP3 المشهور الذي يسمح بضغط الملفات الموسيقية إلى حجم صغير. نشأ هذا التنسيق في معهد فراونهوفر للدارات المتكاملة بمدينة إرلانغن، حيث اتخذ الباحثون أغنية سوزن فيغا المشهورة "تومس داينر" موضوعاً لتطوير اختراعهم، مستفيدين من إيقاعها الواضح وبساطة نغماتها، حيث غدت هذه الأغنية أول أغنية يتم ضغطها على الإطلاق. ومن بين اختراعات عالم فراونهوفر المشهورة ديود الضوء الأبيض. فسابقاً كان على المرء أن يمزج ضوء الديود الأزرق والديود الأخضر والديود الأحمر للحصول على الضوء الأبيض، الأمر الذي جعل توليد الضوء الأبيض بالديودات مكلفاً وغالي الثمن. وفي العام 1995 تمكن الباحثون في معهد فراونهوفر لفيزياء المادة الصلبة التطبيقية بمدينة فرايبورغ ولأول مرة من توليد ضوء أبيض نقي من شريحة إلكترونية واحدة أي من ديود وحيد، الأمر الذي شكل إشارة الانطلاق لمسلسل نجاحات الديودات الضوئية، حتى غدت اليوم تنير الملايين من المكاتب والشقق السكنية.
يشرح السيد رايموند نويغيباور رئيس مؤسسة فراونهوفر من أين يأتي هذا الغنى بالابتكارات الذي تزخر به مؤسسته فيقول: "إننا نركز اهتمامنا على التكنولوجيا المفتاحية الموجهة نحو المستقبل. وعلاوة على ذلك نقوم من وقت لآخر بإعادة تقييم المجالات والتوجهات الإبداعية التي تحظى بإمكانات تسويقية ضخمة وأهمية اجتماعية كبيرة، ونعيد ترتيب أولوياتنا واهتماماتنا وفقاً لذلك". ومن المجالات المهمة التي تعمل فيها مؤسسة فراونهوفر في الوقت الراهن: الاقتصاد الحيوي والطب الذكي والتقنيات الكوانتية (الكمية) والذكاء الصناعي والتقنيات البيئية والمناخية. وكما يقول السيد نويغيباور، تكتسب مسألة إمدادات الطاقة المستقبلية أهمية خاصة، "فبوسعنا إنتاج عدد هائل من الكومبيوترات الكوانتية ومراكز الحوسبة الضخمة الفائقة السرعة، لكن ذلك لن يفيدنا في شيء ما لم نضمن إمداداتنا بالطاقة بشكل آمن ومستقر. وهذا يعني أنه يتوجب علينا تطوير سياساتنا المتعلقة بالطاقة، وحلولنا الناجعة لمسألة إمدادات الطاقة بشكل أساسي". ويجب أن يكون الهدف هو تحقيق الاستقلالية لجهة الطاقة بالتعاون والتنسيق مع جيراننا في الاتحاد الأوروبي.
الهيدروجين موضوع بحث مستقبلي
ولذلك يكتسب موضوع الهيدروجين الأهمية القصوى في الوقت الراهن، حيث يعمل فيه 35 معهداً من معاهد المؤسسة، وفق ما يقول ماريو راغفيتس الناطق باسم شبكة فراونهوفر للهيدروجين، ويضيف: "الأمر الجيد هو أن أبحاثنا تغطي كامل سلسلة القيمة المرتبطة بالهيدروجين، من إنتاجه مروراً بنقله وانتهاءً باستهلاكه". وبذلك تمتلك مؤسسة فراونهوفر مخابر تحليل الماء حيث تجري أمثَلَة عملية إنتاج الهيدروجين من الماء، ويضاف إلى ذلك مخابر متخصصة بتطوير خلايا الوقود التي تحول الهيدروجين إلى تيار كهربائي، وعلاوة على ذلك تعمل فرق البحث على أتمتة عملية إنتاج خلايا الوقود، حيث أنها لا تزال حتى اليوم تنتج بشكل يدوي، الأمر الذي يجعل إنتاجها بطيئاً وغالي الثمن، وهذا ما يقف عائقاً أمام توظيفها واستخدامها على النطاق الواسع المطلوب مستقبلاً. ولتطوير الحلول أنشأ معهد فراونهوفر لأدوات الآلات وتقنيات التشكيل بمدينة كيمنيتس جهاز بحث غير مألوف: ألا وهو سيارة اسمها زيلبرهومل وذلك بناء على مخططات سيارة سباق من أربعينيات القرن الماضي لم يتم بناؤها فيما سبق. أما الآن فقد قام الباحثون في المعهد ببنائها وزودوها بمحرك يعمل على خلايا الوقود بحيث يمكنهم اختبار بعض الأجزاء المكونة والأفكار الجديدة.
أين يمكن للهيدروجين أن يشكل إضافة حقيقية بالنسبة لمشروع تحول الطاقة؟ مثل هذه الأسئلة العملية تشكل دائماً محور اهتمام الباحثات والباحثين في معاهد فراونهوفر. ويرى السيد ماريو راغفيتس أنه من المفيد توظيف الهيدروجين في المجالات التي لا تمتلك الكثير من بدائل الطاقة الخضراء، وحيث يؤدي توظيفه إلى تخفيض كبير في التسبب بانبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وهذا ما ينطبق أساساً على قطاع الصناعات الكيميائية والحديد الصلب والسفن والشحن والطيران ونقل البضائع الثقيلة. ففي قطاع صناعة الحديد الصلب على سبيل المثال يتم استهلاك كميات هائلة من الفحم الحجري لصهر فلزات الحديد الخام، ولذلك تقوم مؤسسة فراونهوفر بالتعاون مع شركة الصلب المساهمة زالتسغيتر وشركاء آخرين بتطوير مشروع سالكوس الذي يستفيد من الهيدروجين كوقود.
ويشير ماريو راغفيتس إلى مسألة حرجة بالنظر إلى الاستفادة من الهيدروجين، ألا وهي أن "اقتصاد الهيدروجين لن يعمل بشكل جيد ما لم يتم إيجاد حل ناجع لمسالة نقل هذا الغاز"، ويضيف: "إننا في مؤسسة فراونهوفر نمتلك الكفاءات اللازمة فيما يرتبط بتخطيط البنى التحتية وكذلك بالخبرة والمعرفة العلمية في مجال علم المواد".
كانت مؤسسة فراونهوفر على مدار السنوات العشر الماضية واحدة من أولى المؤسسات العشر إلى العشرين الأكثر تسجيلاً لبراءات الاختراع لدى المكتب الألماني لبراءات الاختراع والعلامات التجارية. ولقد تطورت مع مرور السنين انطلاقاً من الكثير من تلك البراءات أعمال تجارية ناجحة جداً، وجرى تأسيس الكثير من الشركات الخاصة، إضافة إلى أن مؤسسة فراونهوفر تمتلك في الوقت الراهن أسهماً في 86 شركة. ويبلغ حجم الميزانية السنوية لأبحاث المؤسسة حوالي 2,9 مليار يورو، يذهب الجزء الأكبر منها، 2,5 مليار يورو، إلى مجال العمل الأساسي المتمثل ببحوث العقود مع الشركاء.
إن العلاقات الوثيقة مع الصناعة مهمة جداً، ليس فقط بسبب التمويل، بل لكي يتعرف الباحثون في المؤسسة على احتياجات الشركاء الصناعيين عن قرب، وبالتفصيل، من أجل إيجاد الحلول المناسبة لها. فعلى سبيل المثال يقوم معهد فراونهوفر لتكنولوجيا السبك والتركيب والمعالجة بمدينة أوغسبورغ بالاشتراك مع شركة إيرباص بتطوير طائرة الهيليكوبتر "ريسر" بالغة السرعة التي من المفترض أن تصل سرعتها إلى 400 كم في الساعة، ويبقى استهلاكها للوقود قليلاً بالمقارنة مع طائرات الهيليكوبتر الاعتيادية التي لا تزيد سرعتها القصوى عن 230 إلى 260 كم في الساعة. والسبب في ذلك يعود إلى أن المعهد يصنع قطع الطائرة من مادة بلاستيكية مدعومة بألياف الكربون. وما يميز هذا التصنيع هو أنه لا يتم يدوياً بل بالاستعانة بروبوت آلي، يقوم بتوضيع طبقات الألياف الكربونية، الأمر الذي يسرع عملية التصنيع ويجعلها دقيقة وذات جودة عالية.
تشبيك عالمي من أفضل ما يكون
جرى إطلاق مؤسسة فراونهوفر بتاريخ 26 آذار/مارس 1949، ولم تكن تضم في البداية سوى 103 عضواً. ولم يكن بالإمكان حينئذ تخيُّل الحجم الكبير الذي ستصل إليه يوماً ما. واليوم لم يعد عمل هذه المؤسسة محصوراً داخل ألمانيا، بل تخطاها إلى مستوى العالم كله، وذلك من خلال مؤسساتها الخارجية الثمانية التي تنشط في أماكن متعددة من العالم كالولايات المتحدة الأميركية والصين وسنغافورة على سبيل المثال. وهكذا فإن المشاريع الدولية ليست غريبة على عمل المؤسسة، بل هي تشكل شغلها اليومي. وفضلاً عن ذلك تسهم المؤسسة في عدد كبير من المشاريع المشتركة ضمن الاتحاد الأوروبي – كمشروع الكربون الأخضر الذي تقوم من خلاله وبالتشارك مع شركاء آخرين من بلدان أوروبية أخرى ببحث كيفية استخراج الألياف الكربونية من النفايات العضوية.
ومن الأمثلة الأخرى على التعاون الدولية للمؤسسة مشروع كيوتك الذي يعمل على تطوير التكنولوجيات الكوانتية. ومن خلال هذا المشروع تتعاون مؤسسة فراونهوفر مع مؤسسة البحث تي إن أو وفرع فراونهوفر في هولندا والجامعة التقنية بمدينة ديلفت. وتُعد التكنولوجيا الكمية "الكوانتية" في الوقت الراهن من أهم مجالات البحث في مؤسسة فراونهوفر. وعلى مستوى العالم يجري في الوقت الراهن تطوير كومبيوتر كوانتي قادر على تنفيذ بعض المهام المحددة بشكل أسرع بكثير من الكومبيوتر ات العادية. وبمساعدة هذا الكومبيوتر يأمل أصحابه أن يتمكنوا من حل بعض المسائل الرياضية المعقدة والمستعصية، كما قد تتمكن الشركات الكيميائية والدوائية من تطوير بنى جزيئية جديدة معقدة ودراستها. أما تقنية التواصل الكوانتي فقد تكون مناسبة وفعالة لضمان أمن المعلومات أثناء نقل البيانات فيما بين البنوك وشركات التأمين لأنها تستطيع الكشف بشكل آلي عن أية محاولات لاعتراض المعلومات وسرقتها.
الكومبيوتر الكوانتي يحدد الاتجاهات المستقبلية
يجري في مؤسسة فراونهوفر حاليا وضع الكثير من اللبنات الأساسية للكومبيوتر الكوانتي، وذلك بالتعاون مع شركة آي بي إم من بين الكثير من الشركات الأخرى أيضاً. وفي العام 2019 عرضت الشركة نموذج "آي بي إم كيو سيستم وان" الذي يعد أول كومبيوتر كوانتي يعمل خارج بيئة المختبر. ومنذ بضعة أشهر يقوم اتحاد من سبع معاهد فراونهوفر بتشغيله في ألمانيا. "نرغب في اكتشاف التطبيقات التي يناسبها هذا الكومبيوتر "، يقول مانفرد هاوسفيرت، مدير معهد فراونهوفر فوكوس في برلين، ويضيف: "لأنه من المؤكد أن الكومبيوتر الكوانتي لن يستبدل جميع الكومبيوتر ات العادية، بل إنه سيوظَّف لحل المسائل الخاصة والمعقدة فقط". وقبل أن تتم برمجة الكومبيوتر الكوانتي والاستفادة منه في الحياة العادية يجب أولاً تطوير الخوارزميات المناسبة له بشكل خاص. إن جعل هذا الكومبيوتر المتطور جاهزاً للعمل يشكل مهمة ضخمة جداً تتطلب تضافر جهود الكثير من الشركاء.
ويؤكد السيد أندرياس تونرمان مدير معهد فراونهوفر للبصريات التطبيقية والهندسة الدقيقة بمدينة يينا "أن وضعنا في ألمانيا مناسب جداً لإنجاز هذه المهمة " ويضيف: "إن ما يميز بلدنا ألمانيا هو وجود ما يعرف بالبحث التعاوني الذي يمول تطوير التكنولوجيات الجديدة على مدى سنوات عديدة" – وبخاصة تلك التكنولوجيات التي لا تعد بنجاح قريب ومنظور. فالشركات الصغيرة والمتوسطة لا يمكنها منفردة تحمل تكاليف مثل هذا المشروع الكبير والمحفوف بالمخاطر – لكنها تستطيع ذلك ضمن مشاريع البحث التعاوني، حيث تتعاون مع المؤسسات البحثية الأخرى وتحظى بدعم الحكومة. لقد كانت مؤسسة فراونهوفر ولا تزال تشارك في مثل هذه المشاريع التعاونية "ولفترات طويلة" كما يقول السيد تونرمان، مضيفاً: "قد تمتد مشاريع البحث التعاوني لأكثر من عشر سنوات – ومن ثم يمكن أن تحقق نتائج باهرة".
وبفضل هذا العمل الجهيد والمثابرة قامت مؤسسة فراونهوفر خلال هذه الفترة التي تزيد على 70 عاماً منذ تأسيسها عام 1949 بتحويل الكثير من أفكارها إلى نجاحات كبيرة – مثل تنسيق "إم بي ثري" الذي استغرق تطويره سنوات عديدة لكنه تمكن في نهاية المطاف من فرض نفسه معياراً عالمياً.
You would like to receive regular information about Germany? Subscribe here: