وطن إدغار رايتس
اشتهرت منطقة هونسروك من خلال ابنها المخرج. اقتفاء الأثر.
يسود هدوء رهيب في هذا الوادي الذي تنتشر فيه أبقار سمينة ترعى بين مروجه الخضراء الواسعة. غالبا، حينما لا يدوي صوت جرس كنيسة شليرشيد، ولا يعلو صوت تراكتور يورغن فولف وهو يسير بين الحقول، فإن المرء لا يسمع غير صفير الرياح. رياح يكون المزارع فولف أول من يشعر بها، حتى في أعماقه، عندما يُسأل عن موطنه: "المناخ القاسي والرياح هما الصفة الدائمة في هونسروك"، يقول ابن الثانية والخمسين. ما يبدو بالنسبة للغريب أمرا غير مألوف، يعتبر بالنسبة لفولف صفة متأصلة في الوطن. "أبي وجدي وأجداده كانوا جميعا مزارعين في شليرشيد".
هونسروك الوطن، هو الأمر المشترك بين يورغن فولف ومخرج من المستوى العالمي، خَلّد هذه المنطقة الواقعة بين نهري الموزل والراين وجعل منها نصبا تذكاريا في عالم السينما: إدغار رايتس، ابن صانع الساعات روبرت رايتس من مورباخ، بدأ عام 1980 أعمال تصوير مسلسل "الوطن" حول كل ما يتعلق بقرية شاباخ، من خلال وقائع وأحداث لا مثيل لها في القرن العشرين، يرويها أحد أبناء هونسروك. تم تصوير "الوطن 1" في عدة قرى، منها غيلفايلر، راونِن، فوبنروت. الفيلم الذي يعرض حاليا في دور السينما "الوطن الآخر"، والذي حظي بالكثير من الحفاوة مؤخرا في مهرجان أفلام البندقية، يتحدث عن شاباخ في القرن التاسع عشر، وقد تم تصويره أيضا بين مروج وحقول يورغن فولف. وقد زرع من أجل الفيلم غرسات شعير ترتفع مترين نحو الأعلى، وهو نوع لم يعد يُزرع الآن في الظروف العادية. عاش فولف وشاهد في طفولته وشبابه كيف أن الكثير من الزوار الأجانب كانوا يحضرون إلى هونسروك لكي يتعرفوا إلى وطن إدغار رايتس. فقد تم عرض سلسلة الأفلام في أكثر من 30 بلدا حتى الآن. يشعر يورغن فولف بالسعادة لأن إدغار رايتس جلب الكثير من الانتباه والاهتمام بمنطقة هونسروك. إلا أنه لا يقول الكثير عن ذلك. "Dehäm is dehäm" (الوطن هو الوطن) يقولها بكل بساطة باللهجة المحلية لمنطقة هونسروك.
يبدو أن سلسلة افلام إدغار رايتس بعنوانها المعبر وموضوعها المثير تتمتع بمفعول ساحر، يزيد سحرا عن طبيعة الجمال "الوعر" في منطقة هونسروك. يتحدث المخرج بأسلوب ملحمي عن الحياة الطبيعية جدا للأجيال المتعاقبة، التي لا تنسي المرء وطنه حتى في الغربة. "يمكن لكل إنسان أن يعشق الوطن ويشعر به، أيّا كان هذا الوطن"، تقول مارغا مولتس، بينما تجلس إلى طاولة خشبية في مطعمها في فوبنروت، الذي تديره منذ 60 عاما. هنا جلس ذات يوم ضيوف من كندا والبرازيل وإنكلترة وهولندا تعرفوا جميعا إلى هونسروك من خلال أفلام "الوطن". وبالتأكيد جلس هنا أيضا إدغار رايتس مع مساعده في الكتابة بيتر شتاينباخ: أمسيات وليال طويلة استمع الاثنان في المطعم المزدحم إلى حكايات عن الحياة في هونسروك. وعندما كانت الحكايات تكاد تتحول إلى أساطير وخرافات، كان ردوي، زوج مارغا مولتس يتدخل، لتصحيح مسار هذه الحكايات. صحيح أن أرملته لم تعد اليوم بحاجة للعمل من أجل كسب قوتها، ولكن حتى خلال تواجدها في المنزل، فإن مطعمها يكون مفتوحا للمعارف والغرباء على السواء. رغم ذلك يتناقص عدد المطاعم التقليدية في هونسروك، ويتلاشى تدريجيا دورها كمستودع ولقاء للقلوب. ماذا حلّ بالوطن؟
يجد المرء الإجابات في هونسروك، في مكان غير مألوف. "مشهد الطاقة" مورباخ، يقوم الآن في منطقة كانت ذات يوم أكبر مستودع أوروبي للذخيرة للقوات الجوية الأمريكية، وغدا اليوم مثالا متميزا رائعا للاستفادة من مصادر الطاقة البديلة. فعلى مساحة 146 هكتار تتجمع تجهيزات الطاقة الكهروضوئية التي تجمع أشعة الشمس، والمراوح الهوائية التي تدور بطاقة الرياح، كما يوجد محطة للغاز العضوي، إضافة إلى أغنام ترعى في أرجاء المكان للحيلولة دون نمو الأعشاب طويلة وانتشارها في كل مكان. ميشائيل غريل، المتخصص في تخطيط الأراضي يقوم بتنظيم تطوير مشهد الطاقة الذي كان هو شخصيا صاحب المبادرة التي تمخضت عنه في قرية مورباخ، مسقط رأس إدغار رايتس. المشروع القائم على مساحة محصنة بالأسوار يتيح لأبناء هونسروك عددا من فرص العمل، ناهيك عن آمال واعدة بالمستقبل للمنطقة، كما يتيح حياة متناغمة مع الطبيعة. إلا أن غيل يقول أيضا: "يجب أن نكون على حذر". فهو يعتبر أن البناء غير المدروس لمراوح ومحطات طاقة الرياح في كافة مناطق هونسروك، يمكن أن يشكل خطرا على المنطقة، رغم كافة الجوانب والاستخدامات الإيجابية. "عندما يملأ المرء كل مكان بمراوح طاقة الرياح، فإن وجه الوطن سيتغير وستغدو الحياة فيه صعبة"، يؤكد غريل، وهو يتأمل الهضاب الساحرة حول مورباخ ويحلم: "الغابات الهائلة في غاية الروعة، مروج النرجس وأزهار الأوركيديا". يعترف غريل بأنه هو أيضا يساهم في تغيير وجه هذه الطبيعة الخلابة. وهو يتحدث عن رئيس بلدية المدينة التركية على شواطئ المتوسط، أناليا، التي ترتبط مع مورباخ بعلاقة صداقة وشراكة. لدى سؤاله عن ما يمكن أن يجذب ابن مدينة أناليا الرائعة في كل شيء، إلى مورباخ، أجاب رئيس البلدية: "إنكم لا تدركون قيمة ما لديكم! هذه الخضرة، وتلك الغابات التي يستطيع المرء التجول عبرها ساعات طويلة بكل هدوء وسكينة. هذه هي الحياة الحَقّة".
غالبا ما يعاني الوطن من تقييم مستخف، يقلل من قيمته. "مزمار الحي لا يطرب"، تقول برونهيلدة ديمغين. تجلس مع زوجها هيريبيرت في غرفة جلوسهما في غيلفايلر، القرية التي لا يزيد تعداد سكانها عن 250 نسمة. عندما تنظر أسرة ديمغين من نافذة المنزل، تقع عينها في الخريف على بحر الألوان الساحر الذي يغمر الغابات المجاورة لوتسلزون وسنوفالد: الأشجار المورقة الملونة بالأحمر والأصفر والبني، الأشجار الصنوبرية الخضراء. وعلى الجانب الآخر من الهضبة، تقع حديقة المزارع يورغن فولف. تحتاج أسرة ديمغين بضع خطوات فقط للوصول إلى بيوت غيلفايلر الخشبية التقليدية التي صورها المخرج رايتس في فيلمه "الوطن". برونهيلدة ديمغين من شميدة، التي تشتهر اليوم في أنحاء العالم، بالبيت والحظيرة ، لأنها موطن أسرة الفيلم "عائلة سيمون". وعلى مسافة بضعة أمتار ينتصب بيت "الوطن الآخر"، حيث تدور أحداث سيرة عائلة سيمون في القرن التاسع عشر.
عمل هيريبيرت ديمغين جاهدا لكي تبقى كواليس الفيلم على ما كانت عليه خلال أعمال التصوير: أعمدة خشبية بنية اللون، موقد مفتوح تحيط به قدور قاتمة اللون، زهور مرسومة على الجدار لتزيين المكان بأسلوب بسيط. موقع لذكريات يكاد يكون مسحورا. ولكن عندما يتحدث ديمغين عن موطنه، فإنه يتحدث بكل مشاعره ووجدانه، وتراه مترسخا عند كل زاوية. عند أصدقائه في هونسروك، عند الحقول والغابات، وعند أشجار التفاح أمام باب البيت: "لا مانع في أن يكون شكل التفاح غير جميل وطعمه مائل للحموضة، فعندما تبتسم لي تفاحة، أتناولها. من لديه اليوم مثل هذه الجنة؟"