كل ملف فيه مصير إنسان
رولاند يان، المفوض الاتحادي لوثائق شتازي، يكتب عن دائرته الحكومية وعن التعامل مع ماضي ألمانيا الديمقراطية.
في الواقع هي "مجرد" كوم من الأوراق. وبصراحة أكثر، هي كوم رهيب من الأوراق. أرشيف ملفات شتازي في برلين. يقدر المختصون في الأرشفة طول الخزائن التي تحتويها بكيلومترات عديدة، 111 منها طول الخزائن التي تحتوي الأوراق، إضافة إلى 47 كلم من الأفلام. كل متر من هذه الخزائن يعادل حوالي 10000 صفحة مكتوبة. إحصائية مؤثرة. رغم ذلك فهي ليست سوى مجرد الحصيلة المرئية حاليا لما يقرب من 40 عاما من عمل الشرطة السرية في ألمانيا الديمقراطية DDR. كميات لا تصدق من الأوراق المكتوبة والمطبوعة. ربما تشكل كلها موضوعا مهما للمؤرخين.
كان بالإمكان إتلافها والتخلص منها، خاصة وأنها التركة المؤثرة للحكم الديكتاتوري للحزب الشيوعي SED في ألمانيا الديمقراطية السابقة. ففي هذه الوثائق التي تضم في الواقع عمل ومهمات وزارة أمن الدولة يجد المرء كما هائلا من حالات التعدي على حقوق الإنسان. كل حدث مدون في الملفات هو عبارة عن حياة إنسان، تدخل فيها أمن الدولة. إنه تدخل في مسيرة حياة، جلب معه الكثير من الويلات والآلام إلى هذه الحياة. لأن شخصا ما لم يوافق على أيديولوجية الدولة، أو لأن هذا الشخص أراد فقط السفر إلى بلد آخر. يمكن أن يرى المرء مضمون هذه الملفات أيضا على أنه خلاصة من الخيانة والملاحقة والاعتقال والرقابة. إنها السلم لبداية مجتمع جديد.
إلا أن هذا الجبل الهائل من الورق تحول من خلال الثورة السلمية للمواطنين في العام 1989 إلى مساهمة في قيام ألمانيا الجديدة، الموحدة، الديمقراطية. كانوا حقا أبطالا، أولئك الذين يحتلون منذ كانون الأول/ديسمبر 1989 المقرات المحلية لشتازي (أمن الدولة) في الدوائر المحلية المختلفة في ألمانيا الديمقراطية، والذين تمكنوا أخيرا في 15 كانون الثاني/يناير 1990 من اقتحام المقر الرئيسي للشرطة السرية في برلين-ليشتنبيرغ. منذ ذلك الوقت أصبحت وثائق شرطة شتازي السرية في يد الشعب. مجالس شعبية وناشطون تمكنوا من إنقاذ هذه الوثائق من يد أمن الدولة الذي بدأ إتلافها. ثم ناضلوا أيضا من أجل أن تتم دراسة وتقييم هذه التقارير المتعلقة بمراقبة المواطنين، ومن أجل إلقاء الضوء على مصير الكثيرين منهم.
عندما بدأت الدائرة الحكومية التي أنشئت لغرض دراسة ملفات شتازي عملها في الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 1990، مع تمام الوحدة بين الألمانيتين، انطلق في الواقع مشروع ليس له مثيل في العالم. لم يسبق أبدا أن اتُخِذ قرار بإتاحة المجال لعامة الشعب للاطلاع على محتويات ملفات أجهزة أمن الدولة في أي بلد في العالم. أما عن كيفية سير هذا المشروع، فقد توجب على أوائل الموظفين والموظفات القيام بتجاربهم الخاصة، تحت قيادة المفوض الحكومي الخاص آنذاك يوآخيم غاوك في مقرهم المخصص لهذا الغرض في فيندزايلة. بذات السرعة التي تطور فيها العاملون في هذا المجال وازداد عددهم، تطورت الطرق التي يسلكونها في فتح الملفات ومعالجتها وإتاحة الفرصة للاطلاع عليها.
ولكن كيف يمكن للمرء فسح المجال لأولئك الذين تعرضت حياتهم للتدمير من خلال زيف أمن الدولة وظلمه، وإتاحة الفرصة لهم للاطلاع على هذه الملفات، دون المساس بالحقوق الخاصة لأشخاص آخرين ورد ذكرهم في ذات الملفات؟ كيف يمكن للمرء أن يضمن الشفافية في معالجة وتقييم سلوك الدولة المدون في هذه الملفات، وفي ذات الوقت احترام قوانين سرية المعلومات وحق التصرف بالمعلومات الخاصة؟ مازال الجواب على هذه التساؤلات يشكل حتى اليوم الأساس الذي يقوم عليه عمل هذه الدائرة الحكومية: قانون وثائق شتازي.
يجمع هذا القانون بكل حنكة بين كلا الأمرين بشكل مثالي. فهو من جهة يضمن مراعاة حق حماية الأشخاص وحق حرية التصرف بالمعلومات، كما يضمن من جهة أخرى الحق في الشفافية في سلوك الدولة، ويوحد كلا المبدأين. منذ أكثر من 20 عاما يشكل هذا القانون الأساس الذي أثبت جدارته من أجل الاطلاع على ملفات أمن الدولة. وليس من المستغرب أن يحاول الزوار القادمون من شتى أنحاء العالم الاطلاع بشكل تفصيلي دقيق على هذه القاعدة الأساسية. هؤلاء الزوار يزورون أرشيف دائرة شتازي الحكومية، في الموقع الأصلي للحدث، في البناء التاريخي لوزارة أمن الدولة، والكثير منهم يأتي مؤخرا من البلدان العربية. حيث يرى هؤلاء الزوار في خبرتنا الطويلة في التعامل مع قانون وثائق شتازي خير مثال يمكنهم السير على آثاره، ويجدون فيه الكثير من الأفكار المفيدة لهم في جهودهم الرامية إلى فتح ملفات مشابهة في بلدانهم.
يتم استخدام الملفات على عدة مستويات. فهي تشكل في المقام الأول الفرصة لأولئك الذين تأثرت حياتهم بسلوك وتصرفات أمن الدولة لتوضيح الكثير عن ما يتعلق بمصيرهم. أولئك الذين لم يعملوا بما يتوافق مع أيديولوجية الحزب الشيوعي SED يمكنهم من خلال قراءة الملفات الاطلاع على المصير الذي كان بانتظارهم، والذي كان أمن الدولة يعده لهم. يمكن مشاهدة كيف أن الفشل في الحصول على مقعد للدراسة الجامعية، كان مرده إلى تدخل مباشر من الدولة وأجهزتها، وليس العجز عن تحقيق المتطلبات والشروط اللازمة. يمكن الكشف عن أن فشل محاولة الهرب من البلاد، لم يكن بسبب سوء الحظ أو التخطيط، وإنما بسبب الوشاية والخيانة. يمكن التأكد من أن انعدام فرص التطور والترقي في العمل لا يعود إلى فقدان الإمكانات والمؤهلات، وإنما نتيجة لخطة مدروسة، معروف من وراءها.
بهذا تكون الملفات أيضا شواهد على الخيانة والتجسس والانتهازية والتذلل. إلا أنها تشهد أيضا على أنه رغم كل المراقبة وكبت الحريات، فإن الإنسان لن يتخلى عن المطالبة بالحرية والكفاح من أجلها، وأنه يريد العيش كما يستحق ويريد. إنها تبين أن الإنسان قد نجح في امتحان الأخلاق والقيم والضمير وفي تحفيز روح التعاون والتضحية، رغم كل الشر وقوته وسلطته.
إلى جانب الاطلاع على الملفات الشخصية المركزية يمكن للوثائق أيضا أن تفيد الإعلام والبحث العلمي، من أجل توعية الرأي العام حول آثار عمل أمن الدولة. إلى جانب ذلك، فإن الاطلاع على الملفات يمكن أن يكون مفيدا في التأكد من شخصية ووجدان العاملين في دوائر الدولة، أو الأشخاص الذين يحتلون مناصب اجتماعية عالية. كما أن الملفات تساعد في توضيح الأمور المتعلقة بالتقاعد والراتب التقاعدي وإجراءات العلاج وإمكانات الاستجمام للضحايا. تعتبر الملفات أيضا المصدر الرسمي الوحيد الذي يتضمن معلومات حول من أصيب بسبب سلوك شتازي بعاهة تمنعه من العمل، أو تعرض للسجن.
وماذا عن المجتمع؟ هل استفاد المجتمع من فتح ملفات شتازي؟ غالبا ما أثار التعامل مع ملفات الحكم الديكتاتوري في ألمانيا الديمقراطية جدلا حاميا في أوساط المجتمع. ولكن من خلال الاطلاع الدقيق والتفصيلي على آليات القمع والاضطهاد في ملفات أمن الدولة يمكن أن للمرء أن يفهم كيف كان يعمل جهاز شتازي. إنها الضمانة الأمثل لتفادي تكرار هذا الأسلوب من الديكتاتورية.
إدراك كيف كانت الأمور. معرفة من تولى المبادرة، كيف ولماذا، كل هذا يشكل درسا لا ينسى. التحديد الواضح للمسؤولية والتعامل مع الذنب واتخاذ الخطوات اللازمة. فقط بهذه الطريقة يمكن لأولئك الذين كانوا أشد معاناة من الدكتاتورية، وانتهوا في السجون، أن يتصالحوا مع المجتمع، ويمكن أن تشفى جراحهم. مهم جدا الكشف عن الحقيقة وتسمية الأشياء بمسمياتها، ولكن ليس فقط لأولئك الذين تعرضوا للملاحقة والمعاناة، وإنما أيضا بالنسبة للقادمين من بعدهم. فكلما فهمنا الديكتاتورية بشكل أفضل، كان بإمكاننا بناء الديمقراطية بصورة أحسن.
رولاند يان
صحفي ومدافع عن حقوق المواطنة. يشغل رولاند يان منذ 15 آذار/مارس 2011 منصب المفوض الاتحادي لوثائق أمن الدولة في ألمانيا الديمقراطية السابقة DDR. تأسست جمهورية ألمانيا الديمقراطية DDR (استمرت من 1949 حتى 1990) إثر تقسيم ألمانيا نتيجة للحرب العالمية الثانية. وخضعت حتى قيام الثورة السلمية وانهيار جدار برلين في خريف 1989 لحكم دكتاتوري بقيادة حزب الوحدة الاشتراكي الألماني (SED). يان من مواليد يينا 1953، وكان ثائرا في ألمانيا الديمقراطية ضد تقييد حرية الرأي. بعد 1989 انشغل بشكل مكثف في دراسة وتحليل آثار حكم SED الدكتاتوري.