إلى المحتوى الرئيسي

حالة الأنا الصعبة

كتب ريشارد دافيد برشت أنجح كتاب علمي فلسفي في تاريخ ألمانيا. كتابه "من أنا - وإن نعم فكم العدد؟" أصبح من الكتب الأكثر رواجاً وترجم إلى 16 لغة.

作者:埃纳•拉克讷, 14.08.2012
© picture-alliance/Erwin Elsner

عندما يستطيع امرؤ رواية رحلة طويلة مع أمتعة ثقيلة بهذه السهولة والسلاسة، وأيضاً بهذا التنوع والغنى، كما فعل ريشارد دافيد برشت فإن هذا لأمر يدعو إلى السرور. وهو في الوقت نفسه إنجاز يستحق الجزاء –بعدد كبير من القراء وصل حتى الآن إلى 700000 قارئ في 16 لغة. كتاب ألماني رائج عالمياً مادته ليست بالضرورة مما يثير خيال الناس مسبقاً: الفلسفة. ولكن مع قائد الرحلة برشت يستطيع المرء السفر في رحلة عالمية مثيرة حتى مع الحمولات المزعجة والتعقيدات الفيتغنشتاينية (الفيلسوف فيتغنشتاين). فهو بارع في عرض الفلسفة بطريقة شعبية مبسطة ومختزلة ولكن مع ذلك مع المحافظة على مضمونها الكامل بحيث تروق أيضاً للقراء العاديين الذين لم يقضوا حياتهم المهنية في البرج العاجي الفلسفي لكنهم يتساءلون أيضاً بين حين وآخر: من أين جئنا وإلى أين نحن ذاهبون وما المعنى الحقيقي لهذا الوجود الكبير بكامله؟

بالنسبة لهؤلاء الناس وجد ريشارد دافيد برشت، المولود عام 1964، عنواناً يبدو بلا معنى ولكن في الوقت نفسه ذكياً وذا مضمون مخبأ: "من أنا - وإن نعم كم العدد؟". إنه جملة ليلية قالها صديق له بصوت مبحوح، حسب قول المؤلف الذي يحب توزيع الفكاهات وحكاية القصص الطريفة.

فهل هو نوع من الشعر المائل أم إنه محبوك ببراعة الغريزة الأكيدة ليكون من العناوين الأكثر رواجاً، لكنه كان من الممكن أن يكون عائقاً: لأن شرّاء الكتب الذين يتجاهلون مبدئياً مثل هذه العناوين المستعملة كنوع من الإسعاف لإنقاذ الحياة يمكن أن يفوتهم بسهولة أن يختبئ تحت هذا الغلاف المزاجي قصة رائعة غنية بالأسئلة الفلسفية. ويكمن سحر هذه القصة بالدرجة الأولى في أن الكاتب يقارن الأجوبة التي يقدمها ديكارت وروسو ونيتشه وزيغموند فرويد وغيرهم من الفلاسفة مع النتائج الحالية للعلوم الطبيعية. وعلى الأخص مع الأبحاث المتعلقة بالدماغ التي يتطرق إليها برشت مرة بعد أخرى بافتتان ظاهر –لكنه مفضلاً بعد ذلك أن يبقى كانطياً.

وهكذا فإن الكتاب ليس فقط رحلة سريعة عبر تاريخ الفلسفة وإنما أيضاً عرض مفهوم بشكل جيد لأبحاث الدماغ من بداياتها الأولى وحتى الدراسات الجديدة بما في ذلك "البواعث المثيرة" ومظاهر العنجهية التي يبديها "بحاثة الدماغ الذين يعتقدون أن أبحاثهم ستجعل الفلسفة، وربما أيضاً علم النفس، عاطلين عن العمل".

ويعرف برشت كيف يطور هذا الجدل إلى درجة يظهر فيها بكل وضوح الصراع على المرتبة الأولى في عصرنا النويروبيولوجي الحالي بين الفرويديين (أتباع فرويد)، من جهة، وعلماء الدماغ الذين "يريدون شطب الأنا"، من جهة أخرى. وهو يعرض الغابة الكبيرة التي لم يعد المرء قادراً على الإحاطة بها من كثرة الشجر. وهو يصف هذا بقوله: "مساعدة على التوجه في أدغال العلوم".

من أجل "من أنا - وإن نعم فكم العدد؟" فتح برشت طريقاً مؤلفاً من ثلاثة أجزاء بواسطة الأسئلة الثلاثة الأساسية التي طرحها كانط: ماذا أستطيع أن أعرف؟ ماذا يجب أن أفعل؟ ماذا أستطيع أن آمل؟ في الفصل الأول يوضح شروط القدرة على التحليل والتفكير، مستعيناً أيضاً، كمساعدات للدخول، بأشياء مختلفة مثل أغنية جون لينون "لوسي في السماء مع الألماس". كيف يمكن أن يكون قد بدأ كل شيء مع الحيوانات البشرية قبل ملايين السنين عندما تضاعف حجم الدماغ ثلاث مرات دفعة واحدة. أما المسألة العويصة المتعلقة برسم الحدود بين البشر والحيوانات فهي موضوعه المحبوب الذي يتطرق إليه في الجزء الثاني أيضاً، في فرع الفلسفة الكلاسيكي الأخلاق: الإنسان، حيوان قادر على امتلاك الأخلاق؟ هل يجوز أن نأكل الحيوانات؟ وكيف يجب علينا أن نتعامل مع القرود الشبيهة بالإنسان؟ ولكي يحفز التفكير يرسم برشت أيضاً سيناريو مرعباً لا يشكل فيه الإنسان "تاج" الخليقة وإنما أيضاً مادة حيوانية فقط.

مرة أخرى مع كانط، والآن مع ممثل النفعية جيرمي بنتام، ثم يدخل بعد ذلك على نطاق واسع في المسائل الأخلاقية البيولوجية التي تصرخ طلباً للنجدة من السماء القديمة وتهز أركان التشريع القانوني وكذلك الطب منذ زمن. في مقابلة مع مجلة "شتيرن" قال برشت قبل وقت قصير: علماء الدماغ بشكل خاص "انتزعوا لأنفسهم إلى حد ما سلطة التفسير". لكن العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية عادت لتلتحم مرة أخرى عندما يتعلق الأمر بالإنسان. في الوقت الذي لا يجوز فيه أن تنسحب الفلسفة إلى "إصلاح البيوت القديمة في مجال الفكر" وإنما يتعين عليها أن تعالج مسائل الزمن الحاضر. "الفلسفة بدون العلوم الطبيعية تبقى فارغة والعلوم الطبيعية بدون الفلسفة تبقى عمياء".

يربط ريشارد دافيد برشت عرضانياً بطرق متعددة بين الأشياء المختلفة، ليس فقط بين جزر العلم. في "الرحلة الفلسفية" يتقاطع مراراً وتكراراً التعبيران المتناقضان: العقل والشعور. من يحكم العالم؟ هل مازال أمر كانط المطلق صالحاً لتحقيق الخير؟ وما الذي يتصدع اليوم إنذاراً بالانهيار؟ حسب شوبنهاور ليس العقل سوى عبد للإرادة. حقاً، من الذي يمسك بعصا القيادة في الدماغ هل للأنا قاعدة مادية فقط؟ هل هو مجرد منتوج للخلايا العصبية والهرمونات والمواد الناقلة للمعلومات؟ ما الذي يجري في الحجرة العليا من الدماغ؟ يضطر برشت للعودة إلى ورشات علماء الدماغ وإلى أبحاث العلوم المختلفة –وهو قادر على عرض العلوم والحديث عنها ككاتب القصص البوليسية. بمنتهى الكفاءة والدقة ولكن أيضاً بجرأة عالية على التكثيف والاجتزاء ورسم الحبكات والعقد بمنتهى السهولة واليسر، وباللغة اليومية الشائعة، يصل إلى أسلوب لغوي في منتهى الأناقة والتميز. ويقول برشت تعليقاً على ذلك: لم يعد هناك اليوم أي معنى للكتابة كما كان يكتب كانط الذي كان يستند إلى القواعد اللغوية المدرسية اللاتينية، أو كما كان يكتب هيغل الذي كان أسلوبه ضعيفاً جداً: "كان هيغل ضعيفاً فعلاً في الصياغة وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل نصوصه صعبة الفهم". كما أن رسالته نفسه، أي برشت، عن "المنطق المتحول للروح عند روبرت موزيل" لم تكن سوى "عمل بائس محشو بالتعقيدات". هذا ما يعترف به برشت الآن لكنه يقول إنه، ولحسن الحظ، تحرر من تعقيدات اللغة التي تدرب عليها في الجامعة.

وما الذي يستطيع المرء أن يأمله؟ في الجزء الثلاث من "الرحلة الفلسفية" يدور الحديث عن آنزلم فون كانتربري، وعن هوسّرل وسارتر، وعن لومان وأبيقور، وعن الله والحرية والملكية الخاصة والعدالة والسعادة والحب. الحب، هذا ما يتناوله برشت –الذي يعيش مع زوجته اللوكسمبورغية الصحفية التلفزيونية كارولينه مارت وأربعة أطفال- في كتابه القادم الذي سيصدر في مارس/آذار 2009: "الحب. شعور غير منظم". عمل يمكن أن يحتل بسهولة مكاناً متقدماً في قائمة الكتب الأكثر رواجاً.