إلى المحتوى الرئيسي

إريش كستنر: مؤلفٌ عظيم لكتب الأطفال – وأكثرُ من ذلك بكثير

تُرجمت أعمالُه من كتب الأطفال إلى أكثر من 70 لغة، وما تزال تبيع ملايين النسخ حتى يومنا هذا. لكن كتابات إريش كستنر لم تقتصر على القُرّاء الشبان فقط.

فولف تسينWolf Zinn, 05.11.2024
إريش كستنر في ميونيخ عام 1969
إريش كستنر في ميونيخ عام 1969 © pa/dpa

بينما يهدر القطارُ منطلقًا في اتجاه العاصمة، يغطّ إميل في النوم ويحلم بصورةٍ مُشوّشة. يستيقظ، وإذا بنقوده قد اختفت. يشكّ في بادئ الأمر في الرجل الغامض ذي القبّعة، الذي كان يجلس معه في المقصورة. وهكذا تبدأ مطاردةٌ جامحة عبر شوارع برلين. يعثر إميل على رفاق متضامنين، عُصبة من أطفال المدينة الأذكياء تدخل في تحدٍّ مع عالم البالغين وتعمل على تحقيق العدالة. 

"إميل والمخبرون/Emil und die Detektive"، قصة الأطفال الأولى من تأليف إريش كستنر عام 1929، صنعت منه على نحوٍ مفاجئ نجمًا للمشهد الأدبي الألماني، بل والعالميّ أيضًا. وما تزال قصةُ المدينة الكبرى الشيّقة والمُصوَّرة سينمائيًا عدة مرات تُقرَأ إلى اليوم بحماسٍ بالغ في شتى بقاع الأرض. وتبعتها كتبٌ أخرى للأطفال – جميعُها كلاسيكياتٌ خالدة: "بونكيتشن وأنتون/Pünktchen und Anton" (سنة 1931)، و"الفصل المدرسي الطائر/Das fliegende Klassenzimmer" (سنة 1933) و"لويزا ولوتيه/ Das doppelte Lottchen" (سنة 1949).

تُرجِمَت كتب كستنر إلى أكثر من 70 لغة.
تُرجِمَت كتب كستنر إلى أكثر من 70 لغة. © Remo Hug

روائيٌّ وداع للسلام

اُشتهر كستنر، الذي يحل عيدُ ميلاده الخامسُ والعشرون بعد المائة والذكرى الخمسون لوفاته في عام 2024، وما يزال بقصصه عن الأطفال الشجعان والمبتكرين والمغامرين في المقام الأول. لكن ذكراه لا تتوقف عند كونه مؤلِّفًا عظيمًا لكتب الأطفال فحسب، بل وأيضًا كمؤلف لأدب رفيع المستوى للغاية. كانت روايته "الجري أمام الكلاب/Der Gang vor die Hunde"، والتي لم تُنشَر كاملةً للمرة الأولى إلا في عام 2013 بعد وفاته، من التحف الفنية الرائعة. تروي لنا قصةَ عالمٍ في اللغة الألمانية وآدابها، عاطلٍ يتجوَّل في براري برلين في أواخر عشرينيات القرن الماضي. نُشر الكتاب عام 1931 تحت عنوان "فابيان/Fabian"، لكن دار النشر اقتطعت منه آنذاك الفقرات الإباحية. كان كستنر فوق ذلك شاعرًا غنائيًا ومؤرخًا بارعًا ومراقبًا نقديًا للمجتمع الألماني. وأخيرًا وليس آخرًا كان من دعاة السلام البارزين، الذين ناضلوا من أجل السلام والقيم الديمقراطية بعد فظائع الاشتراكية القومية.

مُعلِّمٌ مع إيقاف التنفيذ

نشأ إريش كستنر المولود في دريسدن عام 1899 وترعرع كطفلٍ وحيد في ظروفٍ متواضعة. كان أباه يعمل في مصنع للحقائب، وكانت والدته غيرُ المستقرة عقليًا، والتي ظل قريبًا منها حتى وفاتها عام 1951، تعملُ خادمةً وعاملةً من المنزل ومصففة شعر. التحق كستنر بدءًا من عام 1913 بمدرسةٍ داخلية كانت تؤهِّل المُعلِّمين المستقبليين. نشر في ذلك الوقت أولى قصائده في الصحيفة المدرسية. وانقطع عن تأهيله المهني لمهنة المُدرس الابتدائي قُبيل اكتماله بوقتٍ قصير. كتب كستنر لاحقًا عن اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914 في سيرته الذاتية ما يلي: "بدأت الحربُ العالميةُ وانتهت طفولتي". جرى استدعاؤه في عام 1917 لأداء الخدمة العسكرية. تشبَّعت أعماقُ نفسه من جراء ضراوة الحرب القاسية وما تثيره من فزع بنفورٍ عميق من النزعة العسكرية، أيًّا كان نوعها. 

العمل في مهنة "شاعر تجاري"

شرع كستنر في عام 1919 في دراسة التاريخ والفلسفة واللغة الألمانية وآدابها وعلوم المسرح بجامعة لايبزيغ وحصل على الدكتوراة في عام 1925. وعمل في أثناء دراسته في مجال الصحافة، وفي السنوات التالية أصبح صحفيًا مطلوبًا لدى مختلف الصحف اليومية من خلال أعماله في النقد المسرحي والمراجعات والتحقيقات والحواشِي والهجاء. كان يعيش آنئذ في برلين، المدينة الأم النابضة بالحياة في العشرينيات الذهبية. كما صنع الشاعرُ الحضريُّ اسمًا لنفسه بقصائده الساخرة اللاذعة. كان كستنر ذاته يصفها بأنها "شعر تجاري"، باعتبارها قصائد للحياة اليومية. وشقّت بعضُ أقواله المأثورة طريقها إلى اللغة اليومية لبني وطنه – مثل عبارة "لا يوجد شيءٌ جيد، ما لم تقم به"، والتي لا تزال شائعة في اللغة الألمانية إلى اليوم.

محرقة الكتب عام 1933، والتي وقعت أعمالُ كستنر كذلك ضحيةً لها
محرقة الكتب عام 1933، والتي وقعت أعمالُ كستنر كذلك ضحيةً لها © pa/dpa

إحراق الكتب وحظر النشر

لم تشفع لكستنر شعبيتُه كمؤلف والنجاح الكبير الذي حققته مؤلفاته للأطفال بعد تولّي الاشتراكيين القوميين مقاليد السلطة. بل على العكس تمامًا: سرعان ما ظهر اسمه على قائمة الكُتّاب المحظورين. وبينما هاجر العديد من الفنانين والعقول الناقدة الأخرى، ظل كستنر في ألمانيا، رغم اعتقاله مرتين على يد الجستابو (البوليس السري الألماني). لدرجة أنه كان حاضرًا عندما ألقى النازيون أعماله في النار أمام عينيه في محرقة الكتب في ساحة الأوبرا في برلين في مايو/أيار 1933 تحت إشراف وزير دعاية الرايخ يوزف غوبلز. ظن في البداية أن الملاحقة ستنتهي قريبًا. وكان ينظر لنفسه أيضًا على أنه شاهد على العصر، يريد تدوين ما كان يحدث في ألمانيا. وبدأ منذ ذلك الحين في نشر العديد من الكتب في الخارج، على سبيل المثال الرواية الناجحة جدًا "ثلاثة رجال في الثلج/ Drei Männer im Schnee" في عام 1934. وعلى الرغم من حظر النشر في ألمانيا، إلا أنه استمر في الكتابة بأسماءٍ مستعارة، بما في ذلك سيناريو فيلم "مونشهاوزن"، والغريب أنه كان برعاية غوبلز ذاته. وعندما كُشف النقابُ عن ذلك قبيل وقتٍ قصيرٍ من العرض الأول في عام 1943، أُصيب أدولف هتلر بالغضب الشديد، حسبما أُشيع. وترتب على ذلك حظر كستنر من الكتابة نهائيًا.

متعدد المواهب الأدبية ورئيس القلم

انتقل كستنر بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى ميونيخ، حيث استقر بها حتى وفاته في 29 يوليو/تموز 1974. وباعتباره أديبًا متعدد المواهب الأدبية، زاد إنتاجه كثيرًا من جديد، حيث كان يكتب بيدٍ خفيفة ولغةٍ واضحة ومباشرة. امتهن أعمالاً كثيرة، منها رئيس تحرير مقالات ومحرر لمجلة الأطفال والشباب (بينجوين) ومؤلف للمسرح الترفيهي والإذاعة والسينما. وشغل في الفترة من 1951 إلى 1962 منصب رئيس مركز القلم الألماني. ظل كستنر مخلصًا في مناهضة النزعة العسكرية طوال حياته. انخرط في حركة السلام واصطدم كثيرًا بعباراتٍ تحذيرية. ولا تزال أعمال إريش كستنر تحظى بشعبيةٍ كبيرة في جميع أنحاء العالم حتى اليوم، لأن مغامرات إميل في برلين خالدة تمامًا مثل أدب كستنر للبالغين وأشعاره التي تتميَّز بالخفة والمرح والأخلاقيات من وقتٍ لآخر.